سورة الملك - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {تباركَ} أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة: السمو والزيادة، حسية أو عقلية، وكثرة الخير ودوامه، والمعنى الأول أنسب للمقام، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك؛ فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ، كالتكثُّر ونحوه، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات، أي: تعالى بالذات عن كل ما سواه. {الذي بيده المُلك} أي: بيده التصرُّف التام والاستيلا ء على كل موجود، وهو مالك المُلك، يُؤتيه مَن يشاء، وينزعه عمن يشاء، واليد: مجاز عن القدرة التامة، والاستيلاء الكامل. {وهو على كل شيءٍ} من المقدورات، أو من الإنعام والانتقام {قديرٌ}؛ مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة.
والجملة: معطوفة على الصلة، مقرِّرة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك في إيجاد أعيان الأشياء؛ المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية. ولو اقتصر على قوله: {بيده الملك} لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط.
ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله: {الذي خلق الموتَ والحياةَ} أي: موتكم وحياتكم أيها المكلّفون. ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه. والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس: أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى فوارد على منهاج التمثيل والتصوير، ويجوز أن يكون حقيقة، إذ القدرة صالحة. وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة، المشار إليه بقوله: {ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا} أي: خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً؛ فيُجازيكم على مراتب متفاوتة، حسب طبقات علومكم وأعمالكم؛ فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح، ولذلك فسَّره صلى الله عليه وسلم بقوله: «أيكم أحسن عقلاً، وأردع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله»، وفي رواية: «أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم له خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، ون كانوا أقلّكم تطوُّعاً» وقال ابن عباس وغيره: أيكم أزهد في الدنيا.
قال القشيري: كيف تكونوا في الصبر في المحنة، والشكر عند المنّة. وقال النسفي: {أيكم أحسن عملاً}: أخلصه وأصوبه، فالخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السُنَّة والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلّط عليكم الموت، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء، الذي لا بدّ منه، ولمّا قدّم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر صفة اللطف قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله: {وهو العزيزُ}: الغالب، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل، {الغفور}؛ الستور، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل. اهـ.
ثم استشهد على تمام قدرته بقوله: {الذي خلق سبعَ سمواتٍ طِباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، من طباق النعلَ: أذا خصفها طبقاً على طبق، وهو مصدر وصف به، أو: ذات طباق، أو: طوبقت طباقاً. وقوله تعالى: {ما ترى في خَلْقِ الرحمنِ من تفاوتٍ} صفة أخرى لسبع سموات، وضع فيها {خَلْق الرحمن} موضع الضمير للتعظيم، والإشعار بعلة الحكم، وبأنه تعالى خلقها بقدرته، رحمةً وتفضُّلاٍ، ولأنَّ في إبداعها نعماً جليلة. أو: استئناف. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحدٍ يصلح للخطاب، و{مِن} لتأكيد النفي، أي: ما ترى فيه شيئاً من تفاوت، أي: اختلاف وعدم تناسب أو اضطراب. وعن السدي: من عيْبٍ. وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأنّ بعضاً يفوت بعضاً. وقرأ الأخوان: {تَفَوُّت} كالتعاهد والتعهّد والبناء لواحد. {فارجع البصرَ} أي: ردَّه إلى السماء، حتى يصحَّ عندك ما أُخْبِرْت به معاينةً، حتى لا يبقى شُبهة. {هل ترى من فطورٍ}؛ صدروع وشقوق، جمع: فَطَر، وهو الشقّ، يقال: فطره فانفطر.
{ثم ارجع البصرَ كرتينِ} أي: كرّره رجعتين مع الأُولى، فتكون ثلاثاً، أو: بالأُولى، وقيل: لمَ يُرد الاقتصار على مرتين، بل أراد به التكرير بكثرةٍ، أي: كرر نظرك ودقّقه مراراً، هل ترى خللاً أو عيباً في السموات؟ وجواب الأمر: {ينقلبْ}؛ يرجع {إليك البصرُ خاسئاً}؛ ذليلاً، أو: بعيداً مما تريد، وهو حال من البصر، {وهو حَسِيرٌ} أي: كليل لطول المعاودة، وكثرة المراجعة، ولم يحصل ما قصد.
ثم بيَّن حُسنها وبهجتها، فقال: {ولقد زيَّنا السماءَ الدنيا} أي: القُربى منكم {بمصابيحَ} أي: بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السراج فيه، زينةً لسقف هذه الدار، من السيارة والثوابت، تتراءى كأنها كلها مركوزة فيها، مع أنَّ بعضها في سائر السموات، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق، تحار في فهمه الأفكار، وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار. قال الفخر: وليس في هذه الآية ما يدل على أنَّ الكواكب مركوزة في سماء الدنيا، وذلك لأنَّ السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في سماء الدنيا، أو في سماء أخرى فوقها، فهي لا بد أن تظهر في سماء الدنيا، وتلوح فيها، فعلى كِلا التقديرين فالسماء الدنيا مُزَيّنة بها. اهـ.
{وجعلناها رُجوماً للشياطين} أي: وجعلنا فيها فائدة أخرى، هي: رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب ويضرب بها الجني، فيقتله، أو يخبِّله فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها؛ لأنها قارّة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمَن تأوّل فيها غير ذلك، فقد تكلّف ما لا علم له به. {وأعتدنا لهم}؛ للشياطين {عذابَ السعير} بعد الإحراق في الدنيا بالشُهب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تبارك الذي بيده المُلك الملُك الظاهري والمُلك الباطني، يُعطيهما مَن يشاء، ويمنعهما مَن يشاء، فالمُلك الظاهري عز يفنى والملك الباطني عز يبقى، وهما ضدان لا يجتمعان في شخص واحد، ولا يتفقان بل أحدهما يغير من الآخر، والمراد بالملك الباطني: معرفة الشهود والعيان، فلا يناسبها إلاّ الخمول، ولا تقوم إلاّ به، ومهما ظهرت أخذ صاحبها وصدمته الحوافر. الذي خلق الموتَ في بعض القلوب والأرواح، فكانت ميتة جاهلة ذليلة حقيرة، والحياةَ في بعضها، فكانت حيّة عارفة مالكة عزيزة، فعل ذلك ليبلوكم أيك أحسنُ عملاً بالإقبال على الله، والتوجٌّه بكليته إليه، أو بالإدبار عنه، والإعراض عن الداعي إليه. وقيل: أحسن العمل: نيسان العمل ورؤية الفضل. اهـ. والمراد: أنه يجتهد في العمل، ويغيب عنه، ومَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد، ولله در القائل:
وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ *** عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر
أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص *** وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر
فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورها *** مَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر
وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِس *** لِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر
علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياً *** أَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر
وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداً *** ويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر
فَجدّ ولا تَغفَل فَعَيشك زائِل *** وأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر
وهو العزيز يُعز مَن أقبل عليه، والغفور لمَن رجع بعد الإعراض إليه. الذي خلق سبعَ سموات الأرواح، وتقدّم قريباً تفسيرها، وعالم الأوراح في غاية الإتقان، ليس فيه خلل ولا تفاوت، ولقد زيَّنا السماء الدنيا. قال القشيري: أراد بسماء الدنيا سماء القلب، لدنوه من سماء الروح، أي: زيّنا ونوّرنا سماء القلب بمصابيح العلم وأنوار الواردات القلبية، وسبحات الإلهامات الربانية، وجعلناها رجوماً للشياطين؛ الخواطر النفاسية، والهواجس الظلمانية الشيطانية، وأعتدنا لتلك الخواطر عذابَ السعير، فيحترق بالخواطر الملكية والرحمانية. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {وللذين كفروا بربهم} أي: ولكل مَن كفر بالله مِن الشياطين وغيرهم {عَذابُ جهنم} يُعذّبون بها جميعاً، {وبئس المصيرُ}، المرجع جهنم. {إِذا أُلقوا فيها}؛ طُرحوا في جهنم، كما يُطرح الحطب في النار، {سَمِعُوا لها}؛ لجهنم {شهيقاً}؛ صوتاً منكراً، كصوت الحمير. شبّه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق. {وهي تفور}؛ تغلي بهم كغليان المِرُجَل بما فيه.
{تكاد تميَّزُ} أي: تتميّز، يعني: تتقطّع وتتفرّق وينفصل بعضها من بعض {من الغيظ} وذلك حين تمد عنقها إليهم، لتستولي عليهم. وغيظها حقيقة بالإدراك الذي خلقه الله فيها. {كلما أُلْقِي فيها فوجٌ}؛ جماعة من الكفار {سألهم خزنتُها} مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم: {ألم يأتكم نذير}؛ رسولٌ يُخوفكم من هذا العذاب الفظيع؟ {قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ}، اعترفوا بعدل الله، وأنَّ الله أزاح عذرهم ببعث الرسل، وإنذارهم ما وقعوا فيه، تحسُّراً على ما فاتهم من السعادة وتمهيداً لِما وقع منهم من التفريط تندُّماً اغتماماً على ذلك، {فكذَّبنا} ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى: {وقلنا ما نزَّل اللهُ من شيءٍ} مما يقولون من وعد ووعيد، وغير ذلك، {إِن أنتم إِلاَّ في ضلالٍ كبير} أي: قال الكفار للمنذِّرين: ما أنتم إلاّ في خطأ عظيم، بعيد عن الصواب.
وجمع ضمير الخطاب مع أنَّ مخاطب كل فوج نذيرُه؛ لتغليبه على أمثاله، مبالغةً في التكذيب، وتمادياً في التضليل، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه، فإنه مُلوح لعمومه حتماً، أو: إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل. ويجوز أن يكون قوله: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الخزنة للكفار، على إرادة القول، ومرادهم بالضلال: الهلاك، أو: سمُّوا جزاء الضلال باسمه، كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] مشاكلة، أو: يكون من كلام الرسل، حكوه للخزنة، اي: قالوا لنا هذا فلم نهتبله.
{وقالوا} أيضاً معترفين بتفريطهم: {لو كنا نسمعُ} الإنذار سماع طالب الحقّ {أو نعقلُ} شيئاً {ما كنا في أصحاب السعير} في عِددهم، ومن أتباعهم، من الشياطين وغيرهم، وفيه دليل على أنَّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وأنهما حجتان. {فاعترَفوا بذنبهم}، الذي هو كفرهم وتكذيبهم الرسل في وقت لا ينفعهم، {فسُحقاً لأصحابٍ السعير} أي: أبعدهم من رحمته وكرامته، وهو مصدر مؤكد لعامله، أي: فسُحقوا سحقاً، أو: فأسحقهم الله سحقاً، بحذف الزوائد. وفيه معنى الدعاء.
الإشارة: وللذين كفروا بشهود ربهم في الدنيا عذابُ جهنم، وهو البُعد والحجاب، وبئس المرجع حين يرجع المقربون إلى مقعد صدق، عند مليك مقتدر، إذا أُلقوا في الحُجبة والقطيعة سمعوا لها شهيقاً غيظاً عليهم، وسخطة بهم، وبصفاتهم المضلة، وهي تفور من قُبح أعمالهم. تكاد تميّز من الغيظ عليهم، كلما أُلقي فيها فوج من أهل الغفلة، قال لهم خزنتها وهم صور أعمالهم وهيئة أخلاقهم الردية: ألم يأتكم نذير؛ داع يدعوكم إلى الله، من العارفين بالله؟ فاعترفوا بأنهم أنكروهم وجحدوا خصوصيتهم، فماتوا محجوبين عن الله، والعياذ بالله.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ الذين يخشَون ربهم بالغيب} أي: يخافون عذابه غائباً عنهم، أو: عن أعين الناس، أو: بالقلب؛ لأنّ القلب أمر غيبي، أو: يخشون ربهم ولم يروه معاينة، {لهم مغفرة} لذنوبهم {وأجر كبير} لا يقادر قدره، الجنة وما فيها.
{وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به}، ظاهره: الأمر بأحد الأمرين؛ الإسرار والإجهار ومعناه: ليستوِ عندكم إسراركم وإجهاركم، فإنه في عِلْم الله سواء. كقوله: {سَوَآءٌ مِنكُم مَّنْ أَسَرَ القول وَمَن جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10]، وكأنه تعالى لمّا قال: {يخشون ربهم بالغيب} ربما يتوهم أن الله تعالى يغيب عنه شيء، رفع ذلك. وقيل: إنَّ المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُخبره جبريلُ عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فقالوا فيما بينهم: أسِروا قولكم لئلا يسمع رب محمد فيخبره، فنزلت. وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم، ووقوع ما يحذرونه، وللمبالغة في شمول علمه تعالى، المحيط بجميع المعلومات، كأنَّ عِلْمَه تعالى بما يُسرونه أقدم منه بما يجهرونه، مع كونهما في الحقيقة على السواء، ولأنَّ مرتبة السر أقدم وجوداً؛ لأنّ ما يقع به الجهر يتقدّم التحدُّث به في النفس.
وقوله تعالى: {إِنه عليم بذات الصدور} تعليل لِما قبله، أي: عليم بضمائر الصدور قبل أن تترجم الألسنة، فكيف لا يعلم ما تتكلم به. وفي صيغة فعيل، وتحلية {الصدور} بلام الاستغراق، ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا غاية وراءه، كأنه قيل: إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية، المستكنة في صدروهم فكيف يخفى عليه ما يُبدونه؟ ويجوز أن يراد ب {ذات الصدور}: القلوب التي في الصدور، أي: عليم بالقلوب وأحوالها، فلا يخفى عليه من أسرارها، {ألا يعلم من خلق} {مَنْ} فاعل بيعلم، {وهو اللطيفُ الخبيرُ} أنكر أن يكون مَن خلق الأشياء وأوجدها غير عالم بباطنها وظاهرها، وصفته أنه اللطيف، أي: العالِم بدقائق الأشياء الخبير؛ العالم بحقائقها. ويجوز أن يكون {مَن} مفعولاً، أي: ألاَ يعلم اللهُ مَن خلقه.
وفيه على الأول دليل على خلق أفعال العباد، وهو مذهب أهل السنة، ووجه الدليل: أنه تعالى لمّا قرر أنه عالم بالسر والجهر، وبكل ما في الصدور، قال بعده: {ألا يعلم مَن خَلَقَ}، وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله إذا كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي القلوب والصدور، فأنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله: {ألا يعلم مَن خلق} مقتضياً كونَه تعالى عالماً بتلك الأشياء، وهو خالق الأشياء وأحوالها، وعالم بجميع ذلك، ولذلك عقَّب ذلك بقوله: {وهو اللطيف الخبير}.
الإشارة: إنَّ الذين يخشون ربهم بالغيب، فراقَبوه وعبدوه، حتى عرفوه فصار الغيب عندهم شهادة.
قال الورتجبي: وصف الله معرفة العارفين به، قبل رؤيتهم مشاهدته، فإذا عاينوه استفادوا من رؤيته علم المعاينة، وهو المعرفة بالحقيقة، خشوا منه في غيبة منه، وهو خشية القلب، فلما رأوه على الخشية الإجلال، وهو علم الروح والسر. اهـ.
وقوله تعالى: {وهو اللطيفُ الخبير}، قال بعضهم: الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة، والكيف، والمادة والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض؛ لأنه للطفه سارٍ في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غير متقيد بذلك، ومَن لم يذق هذا، أو لم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم عن مشاهدة الحق. اهـ. وقال الغزالي: إنما يستحق هذا الاسم يعني اللطيف مَن يطلع على غوامض الأشياء، وما دقّ منها وما لطف، ثم سلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العُنف، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في المُلك والملكوت شيء، ولا يتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلاّ ويكون عنده خبرها. وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أُضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خِبرة، ويسمى صاحبها خبيراً. اهـ.

1 | 2